مركز إدريس الفاخوري للدراسات والأبحاث في العلوم القانونية وجدة

مقاصد حفظ الحقوق العينية في الوثيقة العدلية

مداخلة ضمن أشغال الندوة الوطنية التي نظمت من طرف المركز يومي 25 و26 نونبر 2016 تحت عنوان :”العقار والتعمير والاستثمار” بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة وذلك بمناسبة تكريم أستاذ التعليم العالي الدكتور الحسين بلحساني.

ذ. خالد النويري

أستاذ مقاصد الشريعة

عدل باستئنافية الرباط

تقديم

قبل أن نشرع في الكلام عن أهمية الوثيقة العدلية في حفظ الحقوق العينية ومقاصد الشريعة في التوثيق بالكتابة لحفظ هذه الحقوق وعلاقة كل ذلك بالمستجدات القانونية التي أحدثها قانون 08 ـ 39 المتعلق بمدونة الحقوق العينية ،لابد من مقدمة تعريفية لبعض المصطلحات والمفاهيم الواردة في هذا العرض.

معنى المقاصد في حفظ الحق

المقاصد لغة :مفردها مقصد أو مقصود ، وهو مشتق  من قصد يقصد قصدا، والقصد يطلق على معان كثيرة كلها متقاربة المراد ، فقد يرد القصد بمعنى استقامة الطريق كما في قوله تعالى: “وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر”[1]، وقد يرد القصد بمعنى العدل كقول الشاعر في معنى الحكامة الجيدة:

على الحكم المأتي يوما إذا قضى              قضيته أن لا يجور ويقصد

وقد أورد ابن منظور في اللسان أنه يكون بمعنى التوسط والاعتماد والرفق والأم والعمل فالقصد وسط بين الإفراط والتفريط .

المقاصد اصطلاحا : قال ابن عشور رحمه الله: “المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها ،وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع “[2].  

وأما في التصرفات فقد قال القرافي رحمه الله في الفروق: ” إن كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع ” ومعناه أن أي تصرف أو فعل لا يترتب عليه ما يصلح حال المتصرف، أو حال غيره لا يعتبر تصرفا في الشرع ، فلم يخلق الله وضعا إلا ليرتب عليه أحكاما مبنية على مقصد تحقق مصالح العباد في المعاش والمعاد ، على أساس من العدل وحفظ الحقوق وهو الغاية الكبرى والمقصد الأسنى من بعث الرسل وإنزال الكتب قال تعالى: ” لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط “[3].

ذلك أن الأوامر والنواهي في الخطاب الشرعي متجهة كلها إلى جلب المصالح واكتساب الوسائل المفضية إليها ، وإلى درء المفاسد وتوقي الوسائل المؤدية إليها . تبعا لقاعدة الوسائل والمقاصد .         

في معنى الحق والحقوق العينية   

الحق لغة : يطلق على معان منها الثبوت والوجوب، والنصيب المحدد، والعدل قال أبو زكريا الفراء وكل ما كان في القرآن من نكرات الحق أو معرفاته أو ما كان في معناه مصدرا فوجه الكلام فيه النصب كقول الله تعالى وعد الحق ووعد الصدق والحقيقة ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه وبلغ حقيقة الأمر أي يقين شأْنه وفي الحديث لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لا يعيب مسلما بعيب هو فيه، يعني يبلغ خالص الإيمان ومحضه وكنهه وحقيقة الرجل ما يلزمه حفظه ومنعه ويحق عليه الدفاع عنه من أهل بيته . والعرب تقول فلان يسوق الوسيقة وينسل الوديقة ويحمي الحقيقة فالوسيقة الطريدة من الإبل سميت وسيقة لأن طاردها يسقها إذا ساقها أي يقبضها والوديقة شدة الحر والحقيقة ما يحق عليه أن يحميه وجمعها الحقائق والحقيقة في اللغة ما أُقر في الاستعمال على أصل وضعه والمجاز ما كان بضد ذلك .[4]

الحق اصطلاحا : والفقهاء القدامى لم يعرفوا الحق تعريفا فقهيا وإنما اكتفوا بمعناه اللغوي الذي هو الثبوت والوجوب .لكن المحدثين منهم وضعوا للحق بعض التعريفات كالعلامة مصطفى الزرقا بقوله : ” الحق اختصاص يقرر به الشرع سلطة أوتكليفا “.   

أما رجال القانون فقد وجدوا صعوبة في تعريفه لاختلافهم في زاوية النظر التي يفهمون من خلاله جوهر الحق . فمن رأى أن العنصر الجوهري في الحق هو إرادة صاحبه عرفه بأنه ” قوة إرادية يعترف بها القانون للشخص في نطاق معلوم” ومن رأى أن عنصره الجوهري هو محله وموضوعه  قال : ” إنه  مصلحة يحميها القانون “[5]  وبين المذهب الشخصي والمذهب الموضوعي مذهب ثالث يجمع بينهما بتعريفه الحق أنه “قدرة وسلطة إرادية ومصلحة يعترف بها القانون للشخص ويحميها “.

 وهذه المذاهب المتقدمة هي ما حوته النظرية التقليدية القديمة. وهناك النظرية الحديثة في تعريف الحق التي تذهب إلى أن الحق يتكون من أربعة عناصر، عنصران داخليان: (الانتماء والتسلط). وعنصران خارجيان: (ثبوت الحق في مواجهة غيره والحماية القانونية) وعند جمع هذه العناصر بعضها مع بعض، وعمل المعادلة القانونية يخرج معنى ناتج هو تعريف الحق وفق النظرية الحديثة، وهو “استئثار شخص بقيمة معينة طبقاً للقانون، وهذه القيمة إما أن تكون مالية وإما أدبية أو معنوية، ولا يكون ذلك الاستئثار حقاً إلا إذا تمتع بالحماية القانونية “.

 الحق العيني :  وفيه المسائل التالية :

المسألة الأولى: تعريفه وعناصره.     

أولا : تعريفه : “هو ما يقره الشرع على شيء معين بالذات” . وعرفته مدونة الحقوق العينية الجديدة في المادة 8 بالآتي : ” الحق العيني العقاري هو سلطة مباشرة يخولها القانون لشخص معين على عقار معين، ويكون الحق العيني أصليا وتبعيا”.      

ثانيا : عناصره:

1 – صاحب الحق

2 – محل الحق

فليس في الحق العيني سوى عنصرين بارزين هما:صاحبه ومحله.
المسألة الثانية : أنواع الحق العيني

أولا: يتنوع الحق العيني باعتبار أصليته وتبعيته إلى نوعين :

 النوع الأول:الحق العيني الأصلي

ـ هو الذي يقوم بذاته أي لا يستند في وجوده إلى حق آخر, كحق الملكية والارتفاق

– الحق العيني الأصلي يخول صاحبه السلطات الثلاث التالية :

  • استعمال العين محل الحق

ب – استغلالها

ج – التصرف بها

3 ـ هذه السلطات الثلاث إذا اجتمعت شرعا في حق عيني كونت فيه أوسع سلطة يمكن أن يكسبها  صاحب حق عيني, ولكنها لا تجتمع كلها إلا في حق عيني واحد هو ملكية الشيء ولذلك توصف الملكية بأنها أوسع الحقوق العينية مدى .

النوع الثاني:الحق العيني التبعي:

 1 ـ هو الذي لا يقوم بذاته بل يستند في وجوده إلى حق آخر,كحق المرتهن في احتباس المال المرهون.

 2 ـ الحق العيني التبعي لا يكون إلا تابعا لدين ومن ثم يسمى حقا تبعيا ؛ لأنه تبع لدين فيبقى ببقائه ويسقط بسقوطه.

 3 ـ الحق العيني التبعي لا يخول صاحبه شيئا من سلطات الحق العيني الأصلي؛ لأن غايته توثيق حق شخصي لصاحبه.

 ثانيا : يمكن إجمال الحقوق العينية الأصلية والتبعية في الأنواع التالية:

  • حق الملكية ، حق الانتفاع .حق الارتفاق.
  • حق الارتهان حق الاحتباس. حق الأوقاف.
  • حقوق القرار على الأوقاف .   

تحليل هذه التعريفات

 ليس المقصود من بسط هذه التعريفات ما تمليه الضرورة المنهجية العلمية وصرامة البحث الأكاديمي  فحسب؛ وإنما لبيان الحمولة الفلسفية التي يستوعبها كل تعريف . إن منشأ الحق في نظر الشريعة هو إرادة الشرع فلا يوجد حق شرعي من غير دليل يدل عليه فما  اعتبره الشرع حقاً كان حقاً, وما أنكره كان هو والعدم سواء .ولهذا كان من أهم مقاصد الشريعة كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله (إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا) . أما في القانون فإن الإرادة والسلطة والمصلحة راجعة إلى الشخص هو الذي ينشؤها ويقدرها ويرتب عليها التزامات وتعاقدات لذلك قالوا “العقد شريعة المتعاقدين”. 

مقاصد توثيق الحقوق العينية في العقود العدلية :      

حينما نقول العقود العدلية أو التوثيق العدلي أو خطة العدالة كما كانت في نظام الخطط سابقا فإن الأمر لا يتعلق بتراث حضاري أو انتماء تاريخي نؤثث به لمشهد تعالت فيه  شعارات الأصالة والمعاصرة أو الحفاظ على ما تبقى من أشلاء هوية طمست معالمها موجات حداثة زائفة وأعاصير عولمة زاحفة ؛ بل إن الأمر أجل من ذلك وأخطر ، فالمسألة تهم حفظ نظام التعايش بين أفراد المجتمع على قاعدة مرجعية الشريعة التي ينتسبون إليها بوصفهم مسلمين يراعون الحلال والحرام في معاملاتهم وينضبطون بأحكام التكاليف في التعبير عن إراداتهم عند إبرام تعاقداتهم.      

وقد ألمح المشرع ولو بشكل خجول إلى مرجعية الشريعة متمثلة في الراجح والمشهور وما جرى به العمل من الفقه المالكي كما ورد في المادة 1 من قانون 08 ـ 39 المتعلق بمدونة الحقوق العينية وقد قالت بالحرف :” تسري مقتضيات هذا القانون على الملكية العقارية والحقوق العينية ما لم تتعارض مع تشريعات خاصة بالعقار . تطبق مقتضيات الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 ( 12 أغسطس 1913 ) بمثابة قانون الالتزامات والعقود في ما لم يرد به نص في هذا القانون ، فإن لم يوجد نص يرجع إلى الراجح والمشهور وما جرى به العمل من الفقه المالكي “.

الوثيقة العدلية بين الشرعية الدينية والرسمية القانونية :

الوثيقة العدلية والشرعية الدينية :

لست بحاجة إلى التذكير أن تاريخ التوثيق بالكتابة ممتد في الحضارات ، ومع توالي الشرائع وختم الرسالات بالقرآن الكريم ترسمت المعالم والأحكام والضوابط في الكتابة والإشهاد وظهرت المقاصد المرجوة منه حتى صارت الوثيقة صنعة من الصنائع كما قال ابن فرحون رحمه الله  : ” وهي صناعة جليلة شريفة وبضاعة عالية منيفة تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وحفظ دماء المسلمين وأموالهم والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم . ومجالسة الملوك والاطلاع على أمورهم وعيالهم وبغير هذه الصناعة لاينال أحد ذلك ولا يسلك هذه المسالك “.[6]

وهو ما يؤكده الونشريسي في بيان شرف علم الوثائق بقوله : ” اعلم أن علم الوثائق من أجل العلوم قدرا، وأعلاها إنابة وخطرا ،إذ بها تثبت الحقوق ويتميز الحر من الرقيق ويتوثق بها لذا سميت معانيها وثاقا وقد وقعت الإشارة إلى مقدماتها ولواحقها من كتاب الله عز وجل “.  

أما نصوص القرآن الكريم فهي طافحة بذكر الكتابة والإشهاد في مواقع متعددة وسياقات مختلفة ومن أهمها وأطولها وأغناها في التأصيل والتفريع لهذا الغرض آية المداينة من سورة البقرة المدنية  قوله تعالى : ”  يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ” (282) . وقد جاءت هذه الآية في سياق خاص اعتنى فيه التشريع بمقصد مهم من مقاصد الشريعة هو حفظ المال حيث سبقتها آيات الحث على ألإنفاق ” وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون  “(272) ” الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون “(274)

ثم جاء السياق بتحريم الربا ” الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون “(275)12  

وتلتها أحكام الرهون ” وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم “(283)

يقول الإمام الطاهر ابن عاشور :”نظم القرآن أهم أصول حفظ مال الأمة في سلك هذه الآيات”[7]  ثم قال: ” لما اهتم القرآن بنظام أحوال المسلمين في أموالهم فابتدأ بما به قوام عامّتهم من مواساة الفقير وإغاثة الملهوف، ووضّح ذلك بما فيه عبرة للمعتبر، ثم عطف عليه التحذير من مضايقة المحتاجين إلى المواساة، مضايقة الربا مع ما في تلك المعاملات من المفاسد، ثلّث ببيان التوثّقات المالية من الإشهاد، وما يقوم مقامه وهو الرهن والائتمان. وإنّ تحديد التوثّق في المعاملات من أعظم وسائل بثّ الثقة بين المتعاملين، وذلك من شأنه تكثير عقود المعاملات ودوران دولاب التموّل” .

إذن فالأمر بالكتابة جاء في سياق مقصد حفظ المال ، وإذا اعتبرنا الإشهاد وسيلة المقصود منها ضمان الحق العيني فهي أيضا مفضية إلى مقصد أعظم هو تكثير عقود المعاملات ودوران عجلة التنمية وتحقيق العدالة الوقائية .ومن هنا تكتسب الوثيقة العدلية شرعيتها الدينية ودورها الحضاري .

أهلية الوثيقة العدلية واستيعابها لحفظ الحقوق العينية :

عرف الفقهاء العقد بأنه: ” ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يظهر أثره في محله ” غير أن هناك طائفة من العقود لا تعتبر تامة إلا إذا حصل تسليم العين التي هي موضوع العقد ، ولا يكفي فيها الإيجاب والقبول منها العقود العينية التي يتوقف فيها تمام الالتزام على تسليم العين خصوصا في التبرعات كالهبة والإعارة والإيداع والقرض والرهن وعلى هذا الأساس وضعت القاعدة ” لا يتم التبرع إلا بالقبض ” لذالك فإن من أركان الوثيقة العدلية في التبرعات ذكر الحيازة ومعاينتها عند الاقتضاء.     

ومن مظاهر استيعاب الوثيقة العدلية لتصرفات المتعاقدين في التبرعات التي هي إخراج جزء من المال بدون عوض، التمييز الدقيق في بيان مقاصد المتبرعين والتعبير عن إراداتهم بأدق العبارات لبيان فروق التصرفات بين  ما يراد به صلة المتبرع له  فيكون هبة  يراد بها وجه الموهوب له ويعبر عنها العدول ببيان المراد والمقصد من العقد بقولهم ( أراد بها صلته ومودته ) وبين ما يراد بها وجه الله تعالى فيكون صدقة توثق في العقد العدلي ببيان مقصدها في قولهم : (اراد بها وجه الله العظيم وثوابه الجسيم والدار الآخرة والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ) وهذه الصيغ غي التوثيق ليست قوالب جامدة كما يعتقد كثير من عدول الوقت بل إن حمولتها الدينية وشحنتها الروحية ومقاصدها الشرعية هي التي تذكي في كل من اكتحلت عينه بقراءة وثائق العدول حبه للخير سخاء نفسه بالفضل وروح الانتماء للأمة حتى يظل الخلف على آثار السلف في فعل الخيرات والمسابقة إلى التبرعات من الهبات والصدقات صيغة كتابة الوثائق بالمرجعية الدينية للمسلمين أجدر في النفع لهم من غيرها.

مقاصد توثيق الحقوق العينية في التبرعات :

المقصد الأول: التكثير من عقود التبرعات لما فيها من المصالح الخاصة والعامة ضمانا للأمن التعاقدي وتشجيعا على فعل الخير بالباعث الديني المفضي إلى الرواج الاقتصادي والسلم الاجتماعي ،  إذ قد كان شح النفوس حائلا دون تحصيل كثير من ذلك حيث دلت دلائل الشرع على الترغيب فيها فجعلت من العمل غير المنقطع ثوابه بعد الموت ما ورد في الحديث الصحيح : ” إذا مات ابن آدم    انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ..” .

المقصد الثاني: أن توثق هذه العقود بالإشهاد عليها في وقت الأتمية وقد ورد في الحديث الصحيح: أن تصدق وأنت صحيح تأمل الغناء وتخشى الفقر ولاتترك حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ” ولذلك كان مرض الموت قبل تحويز العطية مفيتا لها وناقلا إياها إلى حكم الوصية .ففي الموطأ عن عائشة أنها قالت : إن أبا بكر كان نحلها جاد عشرين وسقا من ماله بالغابة فلما حضرته الوفاة قال : والله يا بنية ما من الناس أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك.

وإني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا فلو كنت جددتيه واحتزيتيه كان لك وإنما هو اليوم مال وارث فاقتسموه بينكم بكتاب الله “ولذلك كان الإشهاد والتحويز مقصودان دفعا لشيهة التنازع والتواثب .

 المقصد الثالث: الإشهاد على العطية عند عالم بأحكامها مانع من جعل عقود التبرعات ذريعة إلى إضاعة مال الغير من حق وارث ودائن . كما جاء في حديث سعد ابن أبي وقاص أن رسول الله قال له ” الثلث والثلث كثير ..”وحديث النعمان بن بشير أن أباه بشيرا أعطاه عطية فقالت أمه عمرة بنت رواحة لا ارضى حتى تشهد رسول الله .. ” فهو دليل بين على أنها اعتبرت غير منعقدة قبل الإشهاد .

المقصد الرابع: إحكام الصياغة عند كتب الوثيقة ، فالموثق لا يستعمل إلا العبارات الواضحة الدقيقة التي لا تحتمل التأويل أو اللبس المفضي إلى تغيير إرادة المتعاقدين .       

   وهذا الزخم الفقهي إن كان بعض بني جلدتنا يبخس قيمته فاسمعوا الأجانب الأغالب ماذا يقولون حين يقفون منبهرين أمام عظمة التشريع فهذا نقيب المحامين في باريس يقول في مؤتمر نظمته جامعة باريس للبحث في الفقه الإسلامي سنة 1951 قال ” أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى لنا عن جمود الفقه الإسلامي وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور ، وبين ما نسمعه في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ “.[8]

الوثيقة العدلية والرسمية القانونية: 

غالبا ما يثير هذا الموضوع تساؤلات على المشرع الذي لم يعتبر الوثيقة العدلية رسمية إلا تلقي عدلين لها وبعد أدائهما لها عند القاضي المكلف  بالتوثيق للخطاب عليها ،وهذا هو الواقع المر الذي لم يرتفع إلى حين كتابة هذه السطور. ولو عدنا إلى فقهنا المالكي لوجدنا الخطاب إنما يكون لتعريف القاضي بالعدول ليس إلا.

وهنا يمكن أن نسائل المشرع في ضوء هذا الورش الكبير لإصلاح منظومة العدالة أما آن الأوان لفك الأسر ووضع الوزر عن الوثيقة العدلية المروهنة بشهادة عدلين وخطاب القاضي وتضمين ناسخ ومسار طويل من الإجراءات الإدارية  وجعل هذه الوثيقة رسمية بشهادة العدل الواحد؟ وهل هناك ما يمنع شرعا من ذلك ؟

الاشهاد الفردي وإمكانيته  فقها وواقعا:

جاء في المدونة الكبرى في باب الشهادة عَلَى الشهادة: ” قلت : أَتجوز الشهادة على الشهادة في الطلاق في قول مالك ؟ قال : نعم. قلت : وتجوز الشهادة على الشهادة في قول مالك في الحدود والفرية ؟ قال : قال لي مالك : الشهادة على الشهادة جائزة في الحدود وَالطلاق والفرية وفي كل شيء من الأشياء، الشهادة على الشهادة فيه جائزة في قول مالك، وكذلك قال لي مالك : قلت : أَرأَيت الشهادة على الشهادة، أَتجوز في الولاء في قول مالك ؟ قال : نعم ، قال مالك : وشهادة الرجلين تجوز على شهادة عدد كثير.[9]

واستنادا على هذه الرواية للإمام سحنون في المدونة عن الإمام مالك في موضوع الشهادة على الشهادة نقول إن العدل المتلقي للشهادة منفردا يجوز له الإشهاد الفردي في حالة الجمع بين الشهادة والكتابة ـ كما هو الواقع عندنا ـ والعاطف الذي يعطف عليه إنما يكون عطفه من باب شهادته على شهادة من تلقى أولا.هذا إذا لم نفصل الشهادة عن الكتابة ، أما في حال الفصل بينهما كما ورد واضحا فيما تقدم من نصوص فإن حكمهما حكم الوسائل لا حكم المقاصد وتلقي العدل الواحد كاف إذا تمت أهليته  وتوفرت شروط تحمله للمسؤولية من تكوين ومهارة في صناعة الوثيقة.

وبهذا تكون شهادة العدلين في مجلس واحد عند التلقي غير واجبة لأن الله تعالى لما أمر بالإشهاد في قوله: “وأشهدوا ذوي عدل منكم ” لم يبين كيفية الإشهاد هل كل شاهد يتلقى الشهادة بمفرده أو يشهدان معا؟

وهل اشتراط العدد في الاثنين لازم عند تلقي الشهادة أم عند أدائها ؟ فمنطوق النص لا تتضح فيه كيفية التلقي للإشهاد على عكس ما استقر في أذهان كثير من الفقهاء .

والممارس لمهنة التوثيق عند تلقي الشهادة الاسترعائية التي لا يكون فيها الكاتب شاهدا ،خصوصا في التلقية وفي اللفيف ، يعلم كم يتعذر على طالب الشهادة أن يجمع الشهود في مجلس واحد .

بناء على ما تقدم بيانه من علاقة بين الكتابة والشهادة وكونها علاقة فصل واستقلال بدليل منطوق النص الشرعي وما يؤول إليه من مقاصد ، وأنهما وسيلتان لم يقصدهما الشارع لذاتهما ولكن لما يفضيان إليه من مصالح حفظ حقوق المتعاقدين ودفع مفاسد الخصومات بينهم ، نطمئن إلى القول أن الكاتب بالعدل الذي يوثق إرادة المتعاقدين في محرر رسمي  يكتب لكن بصفة تميزه عن سائر الكتاب والموثقين هي صفة العدالة أي ب”العدل “وقال مالك رحمه الله : “لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها عدل في نفسه مأمون ، لقوله تعالى { وليكتب بينكم كاتب بالعدل } ” وهذا هو المقصود بالكاتب بالعدل .وهنا يحق لنا أن نتساءل هل العدل الواحد ناقص الأهلية إذا وثق بمفرده كما يفعل غيره ممن هو في نفس المضمار ؟

الجواب أن العدل الواحد الذي توافرت فيه شروط التكوين الشرعي والقانوني زيادة على صفته الشرعية وهي ” العدالة ” يحق له أن يوثق سائر المعاملات بمفرده باعتبار وثيقته كتابة رسمية لا شهادة لأن الكتب هنا يغني عن الإشهاد ولا يتم ذلك إلا بعد تحرير الوثيقة وقراءتها على الأطراف ثم التوقيع عليها . وقد اعتبر المجلس الأعلى تلقي اللفيف من العدل الواحد جائزا في القرار الصادر عنه بتاريخ 21/3/1987.[10] عملا بقول أبي الشتا وما جاء في منظومة العمل الفاسي :

والعدل يكفي في سماع البينة        مـن اللفيف فتـراها بينـة . [11]

فالعدل الواحد ينوب عن القاضي ويقوم مقامه في استرعاء شهادة اللفيف وهنا نتسائل لماذا لا تأخذ الوثيقة صبغتها الرسمية إلا بعد خطاب القاضي عليها ؟ ولماذا لا يجب الخطاب فقها ؟ ويجب بل ويتحتم قانونا ؟

الجواب معروف في قول ابن عاصم في التحفة :

       ثم الخطاب للرسوم إن طلب           حكم على القاضي وإلا لم يجب .

والجواب معروف قانونا في المادة 35 من قانون 16.03 التي تفيد أن الخطاب تأكد القاضي من خلو الوثيقة من النقص وسلامتها من الخلل وذلك بالإعلام بأدائها ومراقبتها . والمبرر في ذلك هو عدم أهلية السادة العدول للاستقلال عن خطاب القاضي والانفراد بكتابة الوثيقة على غرار الموثقين الآخرين.

وليت شعري هل القضاة اليوم المخولين بالتوثيق لهم من الكفاءة والعلم والفقه بصناعة الوثيقة ما يؤهلهم لذلك ؟  ونحن نعلم ضعف تكوين قضاة الوقت وكثرة أعبائهم ، وقلة بضاعتهم في فقه الوثيقة.

ولا يفوتني في هذا المقام الإشارة إلى الوضع المتقدم  للمرأة في مجال التوثيق . وعند المقارنة بين العقد التوثيقي والوثيقة العدلية المكبلة بشهادة عدلين والملجمة بخطاب القاضي والمسجونة في سجل ناسخ والمرهونة عند كاتب الضبط (صاحب أختام القاضي) ،فالمعادلة البسيطة هي الأتي:                      

عدل + عدل + قاضي+ ناسخ + كاتب الضبط = موثقة .

إن متطلبات الحكامة الجيدة في التسوية التشريعية بين مكونات التوثيق الرسمية تفعيلا لمقتضيات الدستور وعملا بقاعدة المساواة في المواطنة بين الحقوق والواجبات وربط المسؤولية بالمحاسبة ونظرا

لصعوبة الجمع بين عدلين لا يجمعهما أي رابط من الطباع والأخلاق والالتزام سوى قدر التعيين الوزاري الذي حشرهما في مكتب بدائرة النفوذ كل هذا يسوقنا حتما إلى ضرورة الاجتهاد والنظر ممن يمارس التوثيق في الواقع لاممن ينظر ويحلق بعيدا عن المعاناة.

وأختم بقول الشاعر :

إني وقفت بباب الدار أَسألــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا        الحبيب الذي قد كان لي فيهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
فما وجـدت بها طيفا يكلمــنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي  سوى نواح حمام في أعاليـــــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
يا دار أين أحبائي لقد رحلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا   ويا تري أي أرض خيّموا فيـهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا؟
قالت قبيل العشاء شدوا رواحلهــــــــــــــــــــــــم          وخلـفوني على الأطناب أبكيهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
لحقـتهم فاستجابوا لي فقلت لـهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم                أني عبيد لهذه العيس أحميـــهــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
قالوا أتحمي جمالا لست تــعرفهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا                فقلت أحمي جمالا سادتي فيـهـــــــــــــــــــــــــــــا
قالوا ونحن بواد مـــــــــــــــــــا بـه عشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــب                ولا طعــام ولا ماء فــنسقـيــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
خلوا جمالكم يــــــــــــــــــــــــرعون في كبـــــــــــــــــــــــــــــدي                     لعل في كبدي تنموا مراعــيهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
روح المــــــــــــــــــــــــحب على الأحكام صابـــــــــــــــــــــــرة          لعل مسقمها يوما يداويــــــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
لا يــعرف الشوق إلا من يـــــــــــــــكابــــــــــــــــــــــــــــــــــده          ولا الصبابة إلا من يعــــانيهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
لا يســهر الـليل إلأ من بــــــــــــــــــــــــه ألـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم           لا تحرق النار إلا رجل وأطيهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
ثم الصلاة على العدنان مــــــن مـــــــــــــــــــــضر          محــمد سيــد الدنيـا وما فيـــهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

[1]  – سورة النخل الآية 9 .

[2]  – مقاصد الشريعة الإسلامية ص 41 و 42

[3]  – الحديد الآية 25 .

[4]  – لسان العرب ج 10 ص 49 .

[5]  –  الحقوق العينية في الفقه الإسلامي والتقنين المغربي ص13.

[6]  – المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق بآداب الموثق وأحكام الوثائق للونشريسي ص 2.

[7]  –  التحرير والتنوير .

[8] les cogressistes :  Etant donné l’intérêt suscité par lès problèmes évoqués au cours de la semaine de droit musulman et par discussions auxquelles ils ont donné lieu ; dont il est résulté clairement  que les principes du droit musulman ont une valeure indiscutable, et que la variété   des écoles à l’intérieure de ce grand système juridique implique une richesse de notions juridique remarquable qui permet à ce droit de répondre à tous les besoins d’adaptation exigés par la vie moderne .

[9]  – المدونة الكبرى 4/23

[10]  – مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 40 ص 149

[11]  – التدريب على تحرير الوثائق العدلية 1/19