أية حماية قانونية للمقيد حسن النية في ظل القانون العقاري (07-14و 08 -39)؟
دة.فاتحة الطلحاوي
أستاذة باحثة بكلية الحقوق بوجدة
مداخلة ضمن أشغال الندوة الوطنية التي نظمت من طرف المركز يومي 25 و26 نونبر 2016 تحت عنوان :”العقار والتعمير والاستثمار” بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بوجدة وذلك بمناسبة تكريم أستاذ التعليم العالي الدكتور الحسين بلحساني.
مقدمة
لاشك ان نظام التحفيظ العقاري يمثل إحدى الضمانات المهمة لاستقرار الملكية العقارية وخلق الطمأنينة لأصحاب الحقوق العينية، وهو في نفس الوقت أداة تساعد القضاء عند البت في المنازعات المتعلقة بالمجال العقاري.
ولتحقيق هذا الاستقرار اقر المشرع قاعدة القوة الثبوتية للتقييدات كوسيلة لحماية المالك المقيد وعليه تعتبر هذه القاعدة محورا تدور حوله التشريعات المنظمة للعقار المحفظ سواء منها القانون الخاص بتحفيظ العقارات او القانون الذي نظم التصرفات التي ترد على العقار بشكل عام اي مدونة الحقوق العينية باعتبارها نصا عاما يشمل العقار بنوعيه المحفظ وغير المحفظ. اذا كانت قاعدة تطهير العقار المحفظ من الحقوق العينية السابقة على تحفيظه قاعدة مطلقة بالنسبة لاطراف مسطرة التحفيظ او غيرهم، فان الامر يختلف بالنسبة للتقييدات اللاحقة الطارئة على الحقوق المحفظة، فهي قرينة بسيطة وحجية نسبية بين الاطراف، متى ثبت عدم صحة التصرف و قرر القضاء ابطاله كان ذلك موجبا للتشطيب عليه.
لكن حجية القيد بالنسبة للغير تختلف بين ما اذا كان هذا الغير قد قيد عن حسن نية او عن سوئها. لذلك تطرح الاشكاليات التالية : ما هي الضمانات القانونية التي يعتمد عليها المقيد حسن النية لاجراء تقييداته؟ وهل النصوص القانونية كانت متوافقة ومنسجمة في تمتيع تقييدات حسن النية بالحجية المطلقة ؟ وهل مواقف القضاء مستقرة واجتهاداته واحدة تجاه هذه المسالة ؟
المطلب الأول:الضمانات القانونية والقضائية المخولة للمقيد حسن النية
يكتسي القيد بالنسبة للغير حسن النية قوة ثبوتية، بمعنى ان قيود السجل العقاري التي ارتكز عليها مثل هذا الغير تعتبر قيودا صحيحة بحيث لا يتأثر حقه بما يمكن ان يطرا عليها من بطلان او إبطال او تغيير، وهذا ما نص عليه المشرع وكرسه القضاء لكن هل هذه الحجية للتقييدات حجية مطلقة؟ هذا ما سنتناوله في الفقرتين التاليتين:
الفقرة الأولى : القوة الثبوتية لتقييد الغير حسن النية من خلال القانون العقاري
نص المشرع في الفصل 66 من ظهير 12 غشت 1913 كما عدل وتمم بالقانون07-14 “كل حق عيني متعلق بعقار محفظ يعتبر غير موجود بالنسبة للغير إلا بتقييده وابتداء من يوم التقييد في الرسم العقاري من طرف المحافظ على الأملاك العقارية. لا يمكن في اي حال التمسك بإبطال هذا التقييد في مواجهة الغير ذي النية الحسنة “.
وفي نفس الإطار نصت الفقرة الثانية من المادة الثانية من القانون 08-39 المتعلق بمدونة الحقوق العينية ” ان ما يقع على التقييدات من ابطال او تغيير او تشطيب من الرسم العقاري لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن ان يلحق به اي ضرر، الا اذا كان صاحب الحق قد تضرر بسب تدليس او زور او استعماله شريطة ان يرفع الدعوى للمطالبة بحقه داخل اجل اربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب ابطاله او تغييره او التشطيب عليه”. من خلال هذين النصين، يتبين ان المشرع قد اخذ بمبدا الاثر الانشائي للتقييد بالرسم العقاري، بحيث استلزم اشهار جميع التصرفات القانونية الواردة على العقارات المحفظة بالسجلات لدى المحافظة العقارية حتى تكتسب تلك الحقوق حجيتها وترتب اثارها القانونية خاصة تجاه الغير حسن النية، حيث ان حجية القيد بالنسبة له تتجلى في صورتين : صورة ايجابية وصورة سلبية . فالصورة الايجابية تعني ان كل ما هو مسجل في السجل العقاري يعتبر قائما وصحيحا بالنسبة للغير الذي اكتسب حقه بالاستناد لهذه القيود، اما الصورة السلبية فتعني ان كل ما ليس مقيدا في السجل العقاري يعتبر غير موجود بالنسبة للغير الذي اكتسب حقه بالاستناد لبيانات هذا السجل التي لا تنص على التكليف او الحق الذي يراد الزامه به. اذن فالغير الذي وثق بما هو مضمن بالسجلات العقارية والشواهد المستخلصة منها ، قد وثق بظاهر الامور وبما هو مقيد بالرسم العقاري وتعامل مع المتعاقد معه كانه هو المالك الحقيقي وتعاقد على ذلك الاساس ، هذا الغير ضمن له المشرع حماية مطلقة وبالتالي لا يمكن ان يبطل او يشطب على ذلك التقييد التابع لانشاء الرسم العقاري.[1]
لكن حتى يستفيد الغير حسن النية من الحماية القانونية لابد من شروط يجب توافرها اضافة الى شرط حسن النية، يمكن ايجازها في التالي:
– ان يكون التقييد باسم شخص ثالث لا علاقة له بأصل ذلك الحق المقيد بين طرفيه، بمعنى ان لا يكون وارثا لان الوارث لا يتلقى الحق المقيد اعتمادا على التسجيل وانما باعتباره صاحب حق شرعي.
– ان يكون سند التقييد لهذا الغير صحيحا شكلا-اي مكتوبا وفق ما نص عليه القانون- وموضوعا بالا يكون مبنيا على تدليس او تزوير .
– يجب ان لا يكون التصرف واردا على أملاك الدولة العامة او حقوق الحبس لأنها مقررة للمنفعة العامة[2].
فإذا توفرت هذه الشروط وجب استفادة الغير حسن النية من الحماية من البطلان والتشطيب، لكن هذا المبدأ رغم ان كلا من قانون التحفيظ ومدونة الحقوق العينية نصا عليه صراحة إلا أن صياغتهما لأحكامه جاءت غير متطابقة فيما يخص تحديد نطاق هذه الحماية من خلال موقفهما من حجية التقييدات المضمنة بالسجل العقاري، فبينما نص الفصل 66 من قانون 07-14 على أن للتقييدات حجية مطلقة تجاه الغير حسن النية من حيث الأصل، وهو ما قد يدفع إلى القول بعدم تصور إمكانية التشطيب على هذه التقييدات، نجد المادة الثانية من قانون 08-39 خففت من هذه الحجية المطلقة فاعتبرت التقييدات المضمنة بالسجلات العقارية لها حجية نسبية خلال أربع سنوات من تاريخ التقييد، وحجية مطلقة بعد مرور أربع سنوات من هذا التاريخ[3]. فهل هذا يعني عدم وجود توافق بين قانون التحفيظ العقاري ومدونة الحقوق العينية، وبالتالي يحق لكل ذي مصلحة التمسك فقط بتطبيق الفصل 66 من ق ت ع أم أن المادة الثانية من م ح ع جاءت مكملة للفصل 66 من القانون أعلاه، وبالتالي يتعين الانصياع لمقتضياتها والامتثال للقانون العقاري ككل لا يتجزأ.
من المؤكد أن المشرع مدعو لإصلاح النصوص بما يخلق الانسجام والتوافق فيما بينها، لكن ريثما يفعل ذلك، من الافضل ان يطبق القضاء الفصل 66 من ق ت ع على أساس ان تقييدات الغير حسن النية لها حجية مطلقة كقاعدة-لما تحققه هذه الأخيرة من استقرار المعاملات وخدمة الاستثمار الذي يعد العقار مدخله الضروري-وكاستثناء تطبق مقتضيات المادة 2 من م ح ع في حالة ثبوت سوء نيته خاصة وأن حسن نية المقيد دائما مفترض باعتباره الأصل، فهو مدعى عليه يعفى من الإثبات وعلى الذي يدعي خلاف ذلك أن يثبت ما يدعيه.
الفقرة الثانية : تضارب الاجتهادات القضائية بخصوص حجية تقييد الغير حسن النية.
بالرجوع الى القانون العقاري سواء الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري او المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية لا نجد اي تحديد لمفهوم الغير حسن النية وهو ما ساهم في اختلاف الفقه والقضاء حول تحديد هذا المفهوم .
فقد عرف جانب فقهي[4] الغير حسن النية بأنه “هو الذي يجهل العيوب او الشوائب التي تعيب او تشوب سند او رسم من كان تلقى الحق منه يوم تلقي هذا الحق وتسجيله على اسمه في السجل العقاري”.
هذا الفقه يرى ان مجرد علم الغير بوجود حق سابق له غير مقيد، او علمه بالعيوب التي تتعلق بسند الشخص المتعامل معه يجعله سيئ النية، ومن ثم فان تقييده يبقى قابلا للطعن فيه. هذا التوجه اقر به القضاء في العديد من قراراته[5] منها قرار صادر عن محكمة النقض[6] جاء فيه ان “مجرد علم الغير بالعيوب و الشوائب التي تشوب سند او رسم من تلقى الحق عنه يعتبر في حكم سئ النية و بالتالي فانه يعامل بنقيض قصده، و يحرم من كل حق آل اليه و لا يمكن التذرع بحجة التسجيل”. و في الاتجاه المعاكس نجد جانب فقهي[7] يعرف الغير حسن النية بانه “الذي لا يربطه اي ” اتفاق تدليسي” او تواطئي مع المالك المقيد من اجل الحاق الضرر بالشخص الذي يطالب بتقييد حقه و متى ثبت هذا التواطؤ عن طريق تدخل ارادة الطرفين معا، فان الغير المقيد يكون سيء النية يواجه بآثار التشطيب على حقه من السجلات العقارية “. فلتحقق سوء النية لا يكتفى بمجرد العلم البسيط بالتصرف السابق بل لابد- من اجل هدم هذه القرينة- من ثبوت العلم الأكيد المصحوب بالتواطؤ بين المشتري الثاني والبائع للاضرار بالمشتري الأول[8]. و في نفس السياق صدرت قرارات قضائية[9] تعتبر ان مجرد علم المشتري الثاني بالشراء الاول لا يكفي لاستخلاص سوء النية، بل استلزمت توفر عنصر التواطؤ و التدليس كي يتم التشطيب على عقد البيع من الرسم العقاري على اساس ان العقار المتنازع بشأنه تم تفويته لفائدة شخص اخر، وهو نفس ما اقرت به محكمة الاستئناف بالرباط[10] حيث اعتبرت ان القوة المطلقة للتسجيل في السجل العقاري لا يمكن اثارتها من طرف الغير سيء النية، واظهار الضرر المشوب بعيب التدليس يؤدي الى ابطال التسجيل المتخذ في البيع الثاني لصالح متصرف اليه سابق حسن النية لم يستطع نتيجة الظروف ان يسجل حقه.
نظرا لصعوبة استخلاص حسن نية الغير المقيد، حاول القضاء اثبات سوء نيته باعتماد طريقتين مادية وقانونية ، فبالنسبة للاثبات المادي اعتمد شهادة الشهود للاستدلال على حصول التواطؤ بين المشتري الثاني والبائع للاضرار بمصالح المشتري الاول كما اعتمد القرائن القضائية خاصة القرابة التي تربط بين شخصين متواطئين، ففي قرارات عدة[11] اعتبر القضاء وجود علاقة الزوجية قرينة على وجود تواطؤ من اجل حرمان المشتري الاول من حقه، وقضى بالتشطيب على البيع الثاني من الرسم العقاري على اساس ان الزوجة المقيدة تعتبر غيرا سيء النية.
وفي قرارات اخرى[12] استبعدت قرينة القرابة على اساس ان الزوج لا يفترض فيه حتما انه يعرف البيع القائم بين الزوجة والمشتري الاول ، اذ الاصل ان حسن النية يفترض دائما الى ان يثبت العكس .
الى جانب الاثبات المادي، اعتمد القضاء الاثبات القانوني كالتقييد الاحتياطي بالرسوم العقارية الذي اعتبره قرينة لنفي حسن النية[13] ذلك ان كل شخص عمد الى التصرف بالشراء او غيره في عقار محفظ وكان ذلك العقار وقت التصرف مثقل بتحمل تقييد احتياطي ، فانه لا يمكنه ان يتمسك بحجية التقييد في حالة ما اذا تقدم صاحب التقييد الاحتياطي بتقييد حقه ما دام ان مفعول التقييد الاحتياطي منتجا لاثاره القانونية بل حتى لو لم يطلع عمليا على هذا القيد،لان المشرع افترض علم الغير بالوضعية الحقيقية للعقار بعد احداث القيد. لكن القضاء في قرارات اخرى[14] لم يعتبر التقييد الاحتياطي قرينة مطلقة على اثبات سوء النية وانما نسبية فقط لانه مرتبط بمدد محددة اذا لم يتم داخلها تحويل التقييد الاحتياطي الى تقييد نهائي فان سوء نية الغير تنتفي ويكتسب تقييده حجية مطلقة.
إلى جانب التقييد الإحتياطي نجد القضاء يعتبر أيضا وجود حجز عقاري بالرسم العقاري معيارا لسوء نية صاحب الحق المقيد، فوجود حجز تحفظي أو تنفيذي بالرسم العقاري يمنع كل تقييد لاحق لتاريخ تقييد الحجز، فقد جاء في قرار[15] لمحكمة النقض “.. إن التفويت تبرعا أو بعوض مع وجود الحجز يكون باطلا وعديم الأثر.. وبذلك تعتبر الموهوب لها سيئة النية ولا يمكنها الإستفادة من حجية التسجيل بالإستناد إلى أن التصرف قد تم تسجيله وأنه لا يمكن إبطاله، ذلك أن قاعدة ثبات التصرف وعدم إبطاله مقررة لصالح حسن النية فقط وهو ما يستفاد من المفهوم المخالف للفقرة الثانية من الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري”.
لكن في قرارات[16] أخرى اعتبر تصرف المالك الأصلي الذي هو المدين لفائدة الغير دون أن يكون هذا الأخير يعلم بالحجز- غير المقيد بالرسم العقاري- وبادر إلى تقييد حقه صحيحا ما دام أنه لم يثبت علمه بالحجز فهو حسن النية.
ومن المعايير التي يستند عليها القضاء كذلك لمعرفة سوء النية، نجد التصرفات التي يجريها المدين في الفترة السابقة لصدور الحكم القضائي بفتح مسطرة المعالجة أو مسطرة التسوية القضائية للمقاولة أو ما يسمى بفترة الريبة المنصوص عليها في المادة 679 من مدونة التجارة والتي يتوقف فيها المدين عن الدفع، ففي هذه الفترة يكون هناك شك حول التصرفات الصادرة عن المدين، فإذا كان المفوّت له على علم بالوضعية القانونية التي عليها المفوّت وهي خضوعه لفتح مسطرة صعوبة المقاولة بعد توقفه عن الدفع فإنه في هذه الحالة يمكن القول بسوء نيته بل حتى تواطؤه مع المدين، ومن تمّ يمكن الإحتجاج ضدّه بذلك، والتشطيب على جميع الحقوق التي انتقلت إليه من هذا الأخير خلال تلك الفترة والتي تمّ تقييدها بالرسوم العقارية[17] .
من خلال القرارات القضائية المذكورة سابقا وغيرها يتبين أن القضاء المغربي تارة يسير في اتجاه حماية تقييدات حسني النية وتارة أخرى يُتيح إمكانية الإبطال أو التشطيب على تلك التقييدات في حالة توفر قرائن يستدل بها على سوء نية صاحب الحق المقيّد، والسبب في هذا التضارب في القرارات راجع إلى كون حسن النية فكرة غير محددة يشوبها غموض، كما أن هذا المفهوم قد يختلف من حالة إلى أخرى لأنه ذو طبيعة ذاتية في أصله لكونه عنصر نفسي داخلي، إذ لا يمكن تقدير حسن النية إلا بالرجوع إلى ذات الشخص وبصدد واقعة معينة[18]، لذلك فإن إستخلاص سوء النية مسألة تندرج ضمن السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع[19].
فهل توسّع القضاء بسلطته التقديرية في إعطاء تقييدات حسني النية القوة الثبوتية اللازمة وسعى إلى حماية هؤلاء المقيّدين أم عكس ذلك؟ وهل توفق في معاييره المعتمدة لتحديد سوء نية الغير المقيد الذي لا يستحق الحماية؟
أعتقد أن الإجابة بالنفي تكون أقرب إلى الصواب، فالاجدر ان يعتمد القضاء على وسائل قطعية في اثبات سوء نية الغير، وتحديدها في التدليس او التزوير المرتكب من قبل الغير المقيد توافقا مع ما نصت عليه مدونة الحقوق العينية في مادتها الثانية كاستثناءات واردة على الحجية المطلقة لتقييدات حسني النية.
المطلب الثاني: الإستثناءات التي تحد من الحجية المطلقة لتقييدات حسن النية.
إذا كان تقييد الغير حسن النية يكتسب قوة ثبوتية غير قابل لإبطاله أو تغييره أو التشطيب عليه فإن هذا المبدأ ترد عليه إستثناءات منها ما يتعلق بحالة ثبوت التدليس أو التزوير أو استعماله حيث لا مجال في هذه الحالات لاحتجاج الغير بالحجية المطلقة لتقييده، ومن هذه الإستثناءات أيضا عدم مُضي أجل محدّد في أربع سنوات من تاريخ التقييد لرفع دعوى الإبطال أو التشطيب على التقييدات في حالة ثبوت التدليس أو التزوير.
الفقرة الأولى: التدليس والتزوير ينفيان حسن النية.
أولا: التدليس
لقد نص عليه المشرع المغربي كعيب من عيوب الإرادة التعاقدية في الفصل 52 من ق ل ع دون أن يُحدد له تعريفا، غير ان الفقه[20] عرف التدليس بأنه إستعمال خديعة توقع الشخص في غلط يدفعه للتعاقُد.
فالتدليس لا يقوم إلا بإستعمال وسائل إحتيالية من طرف المدلس ساهمت في إجراء تقييد على العقار من طرف الغير حسن النية مما تسبب في ضرر لصاحب حق غير مقيد. بالرجوع إلى المادة الثانية من م ح ع نجد أن المشرع لم يوضح بشكل كاف حالة التدليس كإستثناء من الحجية المطلقة للتقييدات، هل هو تدليس المالك الأول للعقار أم تدليس صاحب الحق المقيّد الذي يُفترض فيه حسن النية؟
فإذا كان صاحب الحق المقيّد حسن النية لم يثبت في حقه أي تدليس بل تفاجأ بإبطال تقييد حقه والتشطيب عليه بالرسم العقاري بدعوى تدليس البائع على صاحب الحق، فهنا مبادئ الإنصاف والعدالة تقتضي عدم تحميله تبعات خطأ لم يرتكبه، فالأولى أن يتمتع تقييد الغير حسن النية بحجية مطلقة ولو ثبت التدليس طالما أن القانون مكّن صاحب الحق غير المقيّد من إقامة دعوى شخصية قصد المطالبة بالتعويض. وتفاديا لإختلاف الإجتهادات القضائية في هذه المسألة يتعين تتميم المادة الثانية من م ح ع بما يفيد إعطاء مفهوم ضيق للتدليس حماية للمقيّد حسن النية وحفاظا على إستقرار المعاملات العقارية.
ثانيا: التزوير
إلى جانب التدليس نصت المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية على التزوير وإستعماله، والمشرع عرّف جريمة التزوير في الأوراق في الفصل 351 من القانون الجنائي بما يلي: “تزوير الأوراق هو تغيير الحقيقة فيها بسوء نية تغييرا من شأنه أن يُسبب ضررا متى وقع في محرر بإحدى الوسائل المنصوص عليها في القانون”، أما استعمال الورقة المزورة فهي جريمة مستقلة بذاتها عن التزوير[21] وكلتا الجريمتين -التزوير وثبوت إستعمال الورقة المزوّرة- تكون نتيجتهما إبطال تقييد الغير حسن النية والتشطيب عليه من الرسم العقاري.
فحسب المادة أعلاه، لا يمكن التمسك بمبدأ حسن النية في التقييدات إذا ثبت أن السند المؤسس للتقييد أو أصل المعاملة كان موضوع تزوير أو استعماله.
والقضاء أقر بنفس الموقف في قرارات عدة[22] لكن في قرار لمحكمة النقض[23] جاء فيه ” إن تقييد التصرفات والحقوق في الرسوم العقارية، قرينة لفائدة الغير حسن النية على صحتها، وليس هناك ما يستثني حالة البطلان بسبب ثبوت التزوير في عقد وقع تقييده ويبقى للغير المقيّد عن حسن نية إستنادا عليه والأجنبي عن هذا العقد حق التمسك بمقتضيات الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري، وتكون المحكمة بالتالي مدعوة للبحث في حسن أو سوء نية هذا الأخير لترتيب آثار تقييده”.
من خلال هذا القرار، حاولت محكمة النقض الإنتصار لمسألة حماية المقيد بحسن نية حيث أقرت أن هذا الغير يكتسي تقييده حجية مطلقة في مواجهة الكافة منذ تاريخ قيده بالسجلات العقارية، لأن تسجيل الحقوق والتصرفات في الرسوم العقارية يعتبر قرينة لفائدة الغير حسن النية على صحتها ولو تعلق الأمر بطلب التشطيب للتزوير.
رغم أن مقتضيات هذا القرار غير مستساغة بكثرة على مستوى الإجتهاد القضائي، الا أن تكريس مثل هذا القرار يحقق استقرار المعاملات العقارية، لذلك يتعين تتميم المادة الثانية من م ح ع بما يفيد إعطاء مفهوم ضيق للتزوير وإعتباره ضابطا يدل على سوء النية إذا إرتكبه المقيد أما إذا كان مرتكبا من قبل المالك الأصلي للعقار أي المفوّت، فهنا يجب مراعاة المقيد حسن النية الذي يعتبر غيرا أجنبيا – عن العقد المبرم بين المالك الأصلي للعقار والمفوت له غير المقيد- ولا دخل له في الجريمة وهو الأولى بالحماية.
الفقرة الثانية: تعليق الحجية المطلقة للتقييد على أجل محدد
بالرجوع إلى الفقرة الثانية من المادة الثانية من مدونة الحقوق العينة نجدها تنص على التالي: ” .. إن ما يقع على التقييدات من إبطال أو تغيير أو تشطيب من الرسم العقاري لا يمكن التمسك به في مواجهة الغير المقيد عن حسن نية، كما لا يمكن أن يلحق به أي ضرر، إلاّ إذا كان صاحب الحق قد تضرر بسبب تدليس أو زور أو إستعماله شريطة أن يرفع الدعوى للمطالبة بحقه داخل أجل أربع سنوات من تاريخ التقييد المطلوب إبطاله أو تغييره أو التشطيب عليه”.
من خلال هذا النص يتضح أن المشرع قد زاوج بين الحجية النسبية والحجية المطلقة، وجاءت مقتضيات هذه المادة لمواجهة الإستعمال السيء لمبدأ حجية التقييدات بأن جعلت له مدة محددة في أربع سنوات من تاريخ التقييد، بمرورها يصبح المقيد حسن النية محميا من كل مطالبة قضائية قد تؤثر على مركزه القانوني كصاحب حق عيني. فواجهت بذلك ما سبق وأن حكم به القضاء من تشطيب على التقييدات بالرسوم العقارية دون مراعاة حسن نية الغير ودون الأخذ بعين الإعتبار مضمون الفقرة الثانية من الفصل 66 من ظ.ت.ع، لذلك جاءت المادة الثانية من مدونة الحقوق العينية لتجعل لتقييدات الغير حسن النية وضعان: إما تقييدات لها حجية نسبية للمقيد حسن النية خلال أربع سنوات من تاريخ التقييد، أو تقييدات لها حجية مطلقة بعد مرور هذا الأجل.
لكن القول بالحجية النسبية خلال أربع سنوات تدفع كل مهتم[24] إلى التساؤل هل تعتبر التقييدات المضمنة بالسجلات العقارية خلال هذه الفترة -أربع سنوات- معلقة على شرط فاسخ هو عدم ظهور متضرر يتمسك بإبطال التقييد للزور أو التدليس بغض النظر عن حسن نية الغير المقيد لحقه العيني على العقار ؟ أما الإشكال الآخر هو كيف لمؤسسات الإئتمان أن تقبل ضمانا عينيا على عقار انتقل لزبونها خلال مدة تقل عن أربع سنوات ضمانا لمبلغ مالي؟
هذه التساؤلات تبين بأن مصلحة المقيد بالسجل العقاري خلال هذه المدة تبقى مهددة تبعا للإستثناءات الواردة على مبدأ الحجية المطلقة للتقييدات المضمنة بحسن نية، وهذا الأجل يضعف من حمايته.
لذلك يلزم إعادة النظر في هذا المقتضى-على الأقل- بتخفيض مدة الأربع سنوات التي فرضها المشرع لرفع دعوى الإبطال أو التشطيب على التقييدات في حالة ثبوت التدليس أو التزوير، وإعتماد أجل قصير لرفع هذه الدعوى ضمانا لتعزيز الثقة وحماية لاستقرار المعاملات العقارية.
[1]– محمد بن الحاج السلمي ، سياسة التحفيظ العقاري في المغرب بين الإشهار العقاري والتحفيظ الاجتماعي-الاقتصادي، منشورات عكاظ الرباط 2002 ص 170
[2] – المصطفى مروني ، الحقوق القابلة للتسجيل والقوة الثبوتية للتسجيلات في ضوء القانون رقم : 07-14.مجلة العلوم القانونية، العدد الاول 2014 ص : 56.
[3] – أحمد العطاري، حجية التقييد في السجلات العقارية بين ظهير التحفيظ العقاري ومدونة الحقوق العينية، المنازعات العقارية- الجزء الثاني 2014- ص: 166
[4] – مامون الكزبري ، التحفيظ العقاري ،الجزء الاول الطبعة الثانية 1987 شركة الهلال العربية للطباعة والنشر ،ص :169
[5] – من هذه القرارات، قرار لمحكمة النقض عدد: 926 بتاريخ فاتح مارس 2001 ،ملف عدد : 2216/1/9/97 جاء فيه “علم المشتري الثاني بالشراء الاول بشان نفس العقار يجعله في حكم متصرف إليه سيئ النية ولو قام بتسجيل حقه بالصك العقاري في وقت لم يسجل فيه الشراء الأول” مجلة المناهج ،عدد7/8، 2005ص: 195.
وفي نفس الاتجاه نجد قرار أخر لنفس المحكمة عدد 3617 بتاريخ 17/12/2003 ملف مدني عدد 4063/1/1/2002 عمر أزوكار، التقييدات والتشطيبات في الرسم العقاري، منشورات دار القضاء الطبعة الأولى 2014، ص: 212
[6] – قرار عدد 579 بتاريخ 25/02/2004 ملف مدني 3930/1/1/2002 عمر أزوكار، التقييدات والشطبات في الرسم العقاري، المرجع المذكور اعلاه، ص: 212
[7] عبد العالي دقوقي، الإلغاء والتشطيب في التشريع العقاري المغربي، رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق شعبة القانون الخاص وحدة التكوين والبحث في القانون المدني كلية الحقوق جامعة محمد الخامس أكدال الرباط، سنة 2001-2002 ص: 267
[8] – محمد خيري، العقار وقضايا التحفيظ العقاري في التشريع المغربي من خلال القانون الجديد رقم 07-14 المتعلق بالتحفيظ العقاري، منشورات المعارف الرباط، طبعة 2014 ص: 603
[9] – قرار الغرفة المدنية بمحكمة النقض عدد 16 بتاريخ 04/01/1978 المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد عدد4 سنة 1978 ص: 131
- قرار محكمة النقض عدد 688 بتاريخ 04/10/1978، مجلة المحاماة عدد14 سنة 1979 ص: 208.
[10] – مشار إلى هذا القرار في مقال لـ ذ. المصطفى مروني، الحقوق القابلة للتسجيل والقوة الثبوتية للتسجيلات في ضوء القانون رقم 07-14، منشورات مجلة العلوم القانونية العدد الأول 2014 ص: 58
[11] – قرار لمحكمة النقض عدد 16 بتاريخ 01/01/1978 المجلة المغربية للقانون والسياسية والاقتصاد عدد 4 ص: 131
– قرار لاستئنافية مكناس عدد 358 بتاريخ 11/02/1992 مشار إليه في مرجع لـ ذ.عبد العالي دقوقي الالغاء والتشطيب في التشريع العقاري المغربي سبق الاشارة إليه، ص: 274
[12] – قرار محكمة النقض عدد 4659 بتاريخ 16/07/1996 ملف مدني عدد 2275/90، جاء فيه:”إن الحكم بإبطال عقد الشراء الذي جاء نتيجة عقدة المعارضة قصد تسجيل عقد الصدقة يقتضي اثبات توفر سوء النية لدى المشتري ولو كان من الأقارب … وإذا كان لا خلاف في كون المشتري هو زوج إحدى الورثة فإن ذلك لا يعني حتما معرفته بالنزاع، إذ الأصل أن حسن النية يفترض دائما إلى أن يثبت العكس” هذا القرار مشار إليه في مرجع ل عصام عطياوي، حجية أكتساب الحقوق العينية بنية حسنة بين استقرار المعاملات العقارية ومبادئ العدالة طبعة 2015 دار السلام الرباط ص: 58-59.
[13] – قرار لمحكمة النقض عدد 708 بتاريخ 15/02/2001 ملف مدني عدد 1226/1/9/97 جاء فيه ما يلي: “تقييد المشتري الثاني لعقده بالرسم العقاري وقد سبقه المشتري الأول الذي قيد عقد شرائه تقييدا احتياطيا، ينفي حسن نية المشتري المقيد الأول…”
– وفي قرار آخر لنفس المحكمة عدد 38 بتاريخ 03/01/2007 ملف مدني عدد 2153/1/2/2006: “.. التقييد الاحتياطي هو بمثابة إنذار بوجود نزاع في الملك، وإقدام المشتري الثاني على تقييد شرائه دليل على سوء نيته”.
– ونفس التوجه أكدته ابتدائية تمارة في حكمها عدد 31 بتاريخ 11/2/2009 ملف عدد 306/6/22 جاء فيه: “شراء المدعى عليهم للعقار المحفظ وتقييد شرائهم رغم وجود تقييد احتياطي لفائدة المدعي يفيد علمهم بوجود نزاع مما يجعل تمسكهم بمقتضيات الفصل 66 من ظهير التحفيظ العقاري غير مؤسس اعتبارا لوجود تقييد احتياطي لضمان رتبة حق عيني لفائدة الغير”. هذا الحكم منشور بمجلة الحقوق المغربية سلسلة القواعد الموضوعية والشكلية في مساطر المنازعات العقارية، الجز الثاني طبعة 2010، ص. 69.
[14] – قرار للأستئنافية البيضاء عدد 2740 بتاريخ 13/07/1984 ملف مدني عدد 326/82 جاء فيه: ” لا يمكن اعتبار المشتري الثاني لعقار محفظ سيء النية ما دام التقييد الإحتياطي للمشتري الأول تم في نفس اليوم الذي وقع فيه الشراء الثاني” منشور بالمجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات عدد 10، ص: 130 وما بعدها
[15] – قرار عدد 1577 بتاريخ 25\05\2005، ملف عدد: 3549\04، المجلة المغربية لقانون الأعمال والمقاولات عدد10 ص:130 وما بعدها.
- وفي قرار آخر لمحكمة النقص عدد 911 بتاريخ 11\02\97 ملف مدني عدد 4939\91 جاء فيه:”لا يلتجئ المحافظ لتسجيل الحقوق إلا عند خلوّها من النزاع، ولما كان العقار موضوع الدعوى مثقلا بحجز عقاري ومسجلا بإسم الموصى له، فقد كان لابد من الإلتجاء أولا إلى القضاء لتطهير العقار من الحجز والإذن بتسجيل الحق عليه، إن المدعى عليه بإعتباره خلفا عاما للبائع المطلوب لايمكن له التمسك بقاعدة التسجيل بالرسم العقاري بحسن نية” . منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 53 ـ 54 ص: 84 وما بعدها.
[16] – قرار عدد 3274 بتاريخ 07 دجنبر 2005 ملف مدني 1870\1\1\2004 جاء فيه: “الحجز التحفظي على العقار موضوع النازلة وقع بتاريخ لاحق على عقد البيع وأنه لم يثبت للمحكمة أن المشتري كان عالما بمديونية البائع له أو سوء نية، وبالتالي فلا يمكن تحميله تبعة أشياء لا يعلمها ولا حتى منع الشخص من التصرف في أمواله في حدود القانون”. هذا القرار مشار إليه في مؤلف ل ذ: عمر أزوݣار، العقار المحفظ بين قواعد الحجز التحفظي والإنذار العقاري، منشورات دار القضاء، طبعة 2014 ص:104.
[17] – جاء في قرار لإستئنافية الرباط عدد 48 بتاريخ 3\2\2010، ملف مدني عدد 399\2008\6 ما يلي: “إن قيام المدين بإبرام عقد صدقة لفائدة إبنته فيه إضرار بدائنه بحرمانه إستيفاء دينه من أموال مدينه والتي تشكل ضمانا عاما له، ويبرر المطالبة بإبطال هذا العقد والتشطيب عليه من الرسم العقاري..”. مجلة قضاء محكمة الإستئناف بالرباط، عدد 04 سنة 2013 ص:43.
[18] – بوحامد عبد القادر، حدود الحماية القانونية والقضائية للتقييدات بحسن نية، الندوة الوطنية في الأمن العقاري، دفاتر محكمة النقض عدد 26 ص: 559.
[19] – قرار عدد 926 بتاريخ 1\3\2001 ملف عدد 2216\97، مجلة المناهج عدد: 87 ص:195 وما بعدها.
وفي قرار آخر لنفس المحكمة عدد 38 بتاريخ 3\1\2007 ملف عدد 2153\05، جاء فيه: “إستخلاص حسن النية أو سوءها من طرف المحكمة طبقا لمقتضيات الفصل 66 من ظهير 12\8\1913 لا يسوغ أن يكون مُتعارضا مع العناصر الواقعية المعروضة أمامها”. منشور بمجلة الإشعاع عدد: 32 ص: 230 وما بعدها.
[20] – مأمون الكزبري، نظرية الإلتزام في ضوء قانون الإلتزامات والعقود المغربي، الجزء الأول، مصادر الإلتزام، مطابع دار القلم بيروت. طبعة 1974 ص: 98.
[21] – تعرض المشرع للأحكام المنظمة لها في الفصول 356، 359، 360، 365 من ق . ج.
[22] – القرار عدد 2854 بتاريخ 23\07\2008. مجلة القضاء والقانون عدد 156 سنة 2008 ص: 190 وما بعده.
ـ القرار عدد 4258 لمحكمة النقض بتاريخ 12\10\2010 . مجلة قضاء محكمة الإستئناف بالرباط عدد: 3 سنة 2013، ص: 102.
قرار محكمة النقض عدد 2691 بتاريخ 29\5\2012. مجلة قضاء محكمة الإستئناف بالرباط عدد: 3 سنة 2013، ص: 120.
[23] – قرار محكمة النقض عدد 170 بغرفتين بتاريخ 20\3\2013 في الملف عدد 2820\1\1\2012. منشور بمجلة سلسلة دراسات وأبحاث، العدد: 9، المنازعات العقارية، الجزء الثاني ص: 171.
[24] – محمد ناجي شعيب: تعليق على قرار محكمة النقض، عدد: 170، ملف عدد: 1280\1\1\2012، مجلة ملفات عقارية عدد: 3 ص: 17 وما بعدها.
– أحمد العطاري، حجية التقييد في السجلات العقارية بين ظهير التحفيظ العقاري ومدونة الحقوق العينية، مرجع سابق ص: 170.