الحكامة العقارية وتحقيق التنمية
د. إدريـس اجـويـلل
أستـاذ التعليم العالي
كلية الحقوق ـ مكناس
تمهيــــــــد
الملاحظ أن السياسة العقارية في المغرب تسير بخطى حثيثة منذ سنوات خلت، هذا مقارنة مع سياسات الدول العربية في هذا المجال والتي ما زالت بعيدة كل البعد عن سن قوانين عقارية ناجعة وفعالة.
وانطلاقا من سنة 1980 من القرن الماضي وإلى الآن، يدرك الباحث في المجال العقاري تلك الترسانة القانونية المنظمة للعقار حسب نوعه وطبيعته، وكل ذلك من أجل إرساء حكامة عقارية وتحقيق التنمية في بعدها الشمولي، لأن العقار هو الركيزة الأساسية لتحقيق التنمية وتشجيع الاستثمار واستتباب الأمن.
ولتحسين وتنوير الرأي العام بأهمية العقار في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، كان للجامعة المغربية دورها الريادي في هذا المجال، حيث عقدت ندوات وأيام دراسية لإثارة الانتباه إلى أهمية البحث العلمي نظريا وتطبيقيا في النهوض بالعقار والمشاركة في إيجاد الحلول للمشاكل التي يعرفها سواء كان محفظا أو غير محفظ أو في طور التحفيظ.
وسأتناول الحديث في هذه المقالة وفق المحاور الآتية :
المحور الأول : مفهوم الحكامة العقارية وتجلياتها في تحقيق التنمية.
المحور الثاني : تحديات وعوائق الحكامة العقارية.
المحور الثالث : تجليات الحكامة العقارية وتحقيق التنمية من خلال التطبيق السليم للقوانين العقارية (قانون 07/14 نموذجا).
خاتمة.
المحور الأول : مفهوم الحكامة العقارية وتجلياتها في تحقيق التنمية
الحكامة : هي فن تدبير الشأن العام[1] في مجالاته وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية، حيث يتداخل في تدبير وتنظيم الشأن العام جميع المكونات الأساسية داخل المجتمع من القانون والسلطة والإدارة والإنسان والمجتمع المدني برمته، الكل يساهم في التدبير من أجل تحقيق المصلحة العامة للوطن.
وقد دخل مصطلح “الحكامة” إلى المجالات المعرفية في السنوات الأخيرة وبالضبط ابتداء من سنة 1989 إلى جانب مصطلحات أخرى كالعولمة والخصخصة والتنمية المستدامة، والمجتمع المدني والمقاربة التشاركية، والتدبير الجيد، والشفافية والنجاعة والشراكة والهشاشة، حيث استعملت هذه المصطلحات من طرف منظمات دولية نافذة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وأضحت الآن هذه المصطلحات في صلب دساتير دول عديدة ومنها الدستور المغربي[2]، كما أضحت لصيقة بتشجيع الاستثمار والتنمية العقارية.
ولئن كان مصطلح الحكامة ارتبط في بادئ الأمر بتدبير المقاولة الخاصة، فإن دوره الآن أصبح لصيقا بالعقار باعتبار هذا الأخير يكتسي طابعا خاصا ومتميزا في تحقيق التنمية بأبعادها المختلفة والتي يشكل العقار نقطة الارتكاز فيها.
وما يجب العمل عليه الآن هو تدبير الشأن العقاري تدبيرا جيدا يتلاءم وضرورات تحقيق التنمية التي على غرارها يجب محاربة السكن العشوائي وتشجيع السكن اللائق، وتشجيع الاستثمار في المجال العقاري لما له من مردودية وفعالية تعود بالنفع العميم على السياسة العامة للوطن.
إن للحكامة الجيدة دور فعال في تدبير الشأن العقاري، ويمكن الحد من نطاقها وتطبيقها بموجب القانون كلما اقتضت التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد ذلك، حيث إنه على سبيل المثال يمكن نزع الملكية في حالات معينة ولا يمكن نزعها وفق الإجراءات التي ينص عليها القانون، لما في ذلك من تحقيق للتنمية التي على إثرها تضمن الدولة الحق في الملكية وحرية المبادرة والتنافس الشريف الحر، وتحقيق التنمية البشرية التي هي أساس كل عدالة اجتماعية.
ويرجع المتخصصون في الدراسات العقارية الأسباب والعوائق الكامنة التي تقف في وجه تحقيق تنمية عقارية شاملة وتخليق حكامة جيدة إلى مجموعة من العوامل، كتعقد المساطر الإدارية وعدم تعميم التحفيظ العقاري وتنوع الملكية، هذا إضافة إلى انتشار الرشوة والفساد بكل أنواعه. ولعمري هي عوائق تحول دون تحقيق التنمية كما تقف حاجزا أمام تشجيع الاستثمار وأمام بلورة حكامة جيدة وفعالة ونافذة، لذا إن حماية حق الملكية واجب دستوري[3] يستفيد منه كل إنسان يراعي من خلال إعمال قواعد الحكامة فيه السياسات العمومية وتحقيق الدينامية في المجال العقاري للتأقلم مع كل متطلبات التجهيز والتعمير[4].
وإذا كان العقار هو الأرضية الأساسية لانطلاق المشروعات الاستثمارية الكبرى والتي تعود بالنفع على المجتمع المغربي جهويا ووطنيا، فمن شأن تدارس قضاياه ومشاكله التمهيد إلى تيسير سبل استثماره وتسهيل طرق تدبيره في المجالات المعدة له كالفلاحة والصناعة والإسكان والسياحة[5] . ولا يمكن تحقيق تنمية شاملة داخل المجتمع إلا بتطبيق ومراعاة المرتكزات الأساسية التي جاء بها دستور 2011 والتي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي :
- ـ المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات[6].
- ـ مراعاة تطبيق القانون تطبيقا سليما أثناء إقامة المشاريع.
- إقامة المشاريع الكبرى كالمصانع والمباني والمزارع والطرق والقناطر وغيرها من المشروعات التي تساهم في الرفع من الرصيد الاقتصادي للمجتمع وبالتالي تحقيق التنمية وانتشار الرخاء الاقتصادي والاجتماعي.
- النهوض بالمجتمع ينعكس بدون شك على الإنسان الذي هو رأسماله، بدونه لا يمكن الحديث عن التنمية أصلا.
- حتى تكون للحكامة العقارية دور فعال في التنمية لابد من مراعاة الأولويات أثناء توظيف الأموال في الاستثمار العام أو الخاص، فتوظيف الأموال من طبيعتها الربح والخسارة، فيجب مراعاة الأولويات وفق حكامة جيدة تعتمد على تطبيق القانون تطبيقا جيدا. كما يجب النهوض بالمرفق العام لتحسين جودته ومردوديته البشرية وفق مرتكزات أساسية خليقة. وقد قال جلالة الملك في رسالته الموجهة إلى المشاركين في المناظرة الوطنية حول السياسة العقارية ودورها في التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالصخيرات يومي 8 و09 دجنبر 2015 “لا يخفى عليكم أن العقار يعتبر عامل إنتاج استراتيجي، ورافعة أساسية للتنمية المستدامة بمختلف أبعادها. ومن ثم، فالعقار هو الوعاء الرئيسي لتحفيز الاستثمار المنتج المدر للدخل والموفر لفرص الشغل، ولانطلاق المشاريع الاستثمارية في مختلف المجالات الصناعية، والفلاحية والسياحية والخدماتية وغيرها”.
- قيام المؤسسات وهيئات حماية حقوق الإنسان بدورها في النهوض بالتنمية البشرية، وتنظيم منافسة حرة ومشروعة بضمان الشفافية، والإنصاف في العلاقات الاقتصادية بما في ذلك ضبط وضعية المنافسة في الأسواق ومراقبة الممارسات المنافية لها والممارسات التجارية غير المشروعة وعمليات التركيز الاقتصادي والاحتكار[7].
المحور الثاني : تحديات وعوائق الحكامة العقارية
العقار في المغرب يتميز بالتنوع والتعدد في بنيته وفي القوانين الخاصة التي تنظمه. وهذا الاختلاف أدى بالتالي إلى تنوع كمي وكيفي في الاجتهاد القضائي المتعلق بفض النزاعات العقارية المعروضة أمام القضاء بمختلف درجاته، إذ من المسؤولية الملقاة على عاتق القضاة يجب عليهم ضبط النصوص التشريعية في هذا الباب كلما تعلق الأمر بنزاع عقاري كل ذلك تجسيدا لمبدأ الحكامة الجيدة وتجسيدا أيضا لتحقيق التنمية ذات البعد الاقتصادي بالدرجة الأولى.
وقد تنبه المشرع إلى هذا الأمر فأصدر في السنوات الأخيرة تشريعات مهمة في المجال العقاري نذكر منها :
- قانون رقم 81/07 المتعلق بنزع الملكية لأجل المنفعة العامة والاحتلال المؤقت للعقارات.
- قانون 18.00 المتعلق بالملكية المشتركة والذي خضع لتعديلات في مضامينه وسيدخل حيز التطبيق في شهر أبريل من هذه السنة.
- قانون 14/07 المتعلق بالتحفيظ العقاري.
- قانون 39/08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية.
- قانون 32/09 المتعلق بمهنة التوثيق وقبله قانون 16/03 المتعلق بمهنة العدالة.
- قانون رقم 236/09/1 المتعلق بمدونة الأوقاف.
- قانون 18/95 بمثابة ميثاق الاستثمارات.
- قانون 36/01 المتعلق بإحداث صندوق الحسن الثاني للتنمية.
- قانون 111/14 المتعلق بالجهات.
- قانون رقم 113/14 المتعلق بالجماعات والمقاطعات.
- قانون رقم 49/16 المتعلق بالكراء التجاري.
إلى غير ذلك من القوانين ذات الصلة بالعقار التي ستضفي عليه منهجا جديدا وستساهم وبدون شك في التنمية الاقتصادية وفي تشجيع الاستثمار. وللحد من التحديات والعوائق التي تحول دون تحقيق حكامة عقارية عادلة وناجعة لابد من الاستناد على المرتكزات الآتية :
أولا : يجب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص مع العمل على تحسين القوانين ذات الصلة بالعقار كقانون 18/95 بمثابة ميثاق للاستثمارات وقانون 36/01 المتعلق بإحداث صندوق الحسن الثاني للتنمية، وقانون 111/14 المتعلق بالجهات وقانون 113/14 المتعلق بالجماعات والمقاطعات[8].
ثانيا : تخليق الحياة العامة في وجه تشجيع الاستثمارات الأجنبية حسب الأولوية والحاجيات الأساسية للدولة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث إن الاستثمار الأجنبي يلعب دورا أساسيا في عملية إنعاش المستوى الاقتصادي والاجتماعي للدولة من خلال تطوير الإنتاج وتحويله من إنتاج استهلاكي إلى إنتاج تصديري وتنمية مصادر الثروة الطبيعية ونقل التكنولوجيا وزيادة فرص العمل وتخفيض البطالة وسد العجز في ميزان الأداءات[9].
ثالثا : دعم القدرة الشرائية للمواطنين التي تدفع بهم إلى تقوية قدراتهم الإنتاجية، وبالتالي تأثير كل ذلك على مستوى الاستثمار والعمل على سن تحفيزات جبائية في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية كالقطاعات البنكية والسياحية والفلاحية والطاقة والمعادن والنقل والتعليم والتكوين المهني وقطاع العقار والصيد البحري وقطاع الصناعة التقليدية والإعلام وقطاع التصدير والصحة[10].
رابعا : للوقوف أمام العوائق والتحديات التي تواجه الحكامة العقارية وتحول دون تحقيق تنمية شاملة، لابد من تبسيط المساطر الإدارية وجعل الإدارة في خدمة المواطن لا المواطن في خدمة الإدارة، حيث إن المستثمر أجنبيا كان أو غير أجنبي لابد وأن يطمئن على توظيف ماله في العقار من تحققه من كون العقار سليم من الناحية القانونية ولا تتخلله نزاعات.
خامسا : ليؤدي العقار دوره في التنمية، لابد من وجود بنية تحتية ملائمة وموارد بشرية كفأة وإصلاح جبائي متين.[11]
فمعيار الكفاءة والخبرة والنزاهة هي من المعايير التي بإمكانها أن تضمن حكامة جيدة، والتي من دونها لا يمكن القضاء على التخلف وتحقيق التنمية البشرية تبعا لذلك.[12]
سادسا : يجب تأهيل المهن القانونية ذات الصلة بالمجال العقاري كالموثقين والعدول نظرا لما تلعبه الوثيقة من استقرار في المعاملات واطمئنان في نفسية المستثمر على ماله من كونه في وضعية قانونية سليمة.
المحور الثالث : معالم الحكامة العقارية في قانون 14/07 المغير والمتمم لظهير التحفيظ العقاري الصادر في 12 غشت 1913.
الحكامة الجيدة هي أساس تحقيق التنمية، بل هي المحرك الأساس لكل تطور داخل المجتمع سواء تعلق الأمر بالجانب الاقتصادي أو المجتمعي أو القانوني. فالقانون يتطور في إطار تحيينه ومراعاة مدى مسايرته للمستجدات المعاصرة، فهو يسير موازاة مع المجتمع في إطار تطوره وصيرورته. ويساعد في حل النزاعات والمشاكل كيفما كان نوعها، ويعتبر العقار من الأمور المجتمعية التي تعرف نزاعات وصراعات بين مكونات المجتمع، وكل هذا يؤثر على الحكامة ويكون عائقا أمام تحقيق تنمية شاملة.
وإذا كان العقار هو حجر الزاوية في كل تنمية، فالحكامة ماسة ومتزايدة في اقتنائه والاستثمار فيه، وهذا يقتضي نهج سياسة محكمة وتدبير عقلاني للوعاء العقاري حتى يكون رهن إشارة الجميع وخاصة المستثمرين الأجانب، ولعل هذا هو الدافع الأساس الذي جعل الدولة تتبنى مجموعة من القوانين حماية للنظام العقاري وتشجيعا للاستثمار.
ومن أهم القوانين التي سنتها الدولة في هذا الصدد تلك التعديلات التي جاء بها قانون 14/07 المغير والمتمم لنظام التحفيظ العقاري الصادر في 12 غشت 1913، حيث إن المشرع وإدراكا منه للواقع الراهن الاقتصادي والاجتماعي، أدخل تعديلات وتغييرات مهمة على هذا القانون باعتبار العقار حجر الزاوية في التنمية، فيجب تقنينه وفق حكامة جديدة ومتجددة تنسجم والظروف الاقتصادية الراهنة. وتتجلى معالم الحكامة العقارية من خلال مقتضيات هذا القانون فيما يلي:
أولا : تبسيط مسطرة التحفيظ
إذا كان التحفيظ العقاري المقصود منه هو إخضاع العقار لنظام جديد لا يمكن إخراجه منه فيما بعد[13] بعد إجراء مسطرة للتطهير يترتب عنها تأسيس رسم عقاري وبطلان ما عداه من الرسوم وكذا الحقوق غير المضمنة به، حيث ينتج عن تحفيظ العقار تطهيره من كل نزاع وإقامة رسم الملكية مستوفيا لجميع الشروط والأركان ووصفه وصفا دقيقا من حيث مساحته وحدوده ومالكه وذوو الحقوق العينية وكذا الارتفاقات والتحملات العقارية المقررة عليه مما يضفي على الرسم العقاري وضعا قانونيا متميزا لا رجعة فيه.
ومما يجدر ملاحظته أن المشرع في ظهير 12 غشت 1913 من خلال سرده لمسطرة التحفيظ كان يتعرض لانتقادات شديدة تجلت في تعقد مساطر التحفيظ[14]. إلا أنه تدارك ك لذلك في قانون 14/07 وعمل على تبسيط تلك المساطر وتسهيلها لمسايرة الواقع الراهن الذي يعرفه المغرب إن على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي لأن العقار هو حجر الزاوية في التنمية والنهوض الاقتصادي والاستقرار المجتمعي، فلابد إذن من تطبيق الحكامة فيه تطبيقا ينسجم ويتلاءم مع السياسة العامة للدولة من حيث تسهيل المساطر وتبسيط الإجراءات، فمنح للمحافظ في هذا الصدد سلطات واسعة في تطبيق القانون والسهر على تنفيذه واتخاذ ما يلزم في ذلك من الحيطة سواء أثناء مسطرة التحفيظ[15] أو أثناء التعرضات فقد نص الفصل 24 من ذات القانون “يمكن لكل شخص يدعي حقا على عقار تم طلب تحفيظه أن يتدخل عن طريق التعرض في مسطرة التحفيظ خلال أجل شهرين تبتدئ من يوم نشر الإعلان عن إنهاء التحديد في الجريدة الرسمية إن لم يكن قام بذلك من قبل…” كما نص الفصل 27 من نفس القانون “لا يقبل أي تعرض باستثناء ما هو منصوص عليه في الفصل 29 بعد انصرام أجل الشهرين يبتدئ من تاريخ نشر الإعلان المذكور في الفصل 23 من هذا القانون بالجريدة الرسمية. وهذه الإجراءات قد تساهم في تبسيط مسطرة التحفيظ وتخفيف النزاعات العقارية بضبط الوعاء العقاري وتسهيل عملية الاستثمار الداخلي والخارجي.
ثانيا : ما يتعلق بالحكامة العقارية وتحقيق الأمن العقاري
إن غموض وتشتت النصوص القانونية المتعلقة بالعقار أدى إلى تضارب الأحكام القضائية وبالتالي انعكس كل ذلك على الأمن القانوني في المجال العقاري، مما فرض على مدونة الحقوق العينية توحيد الأحكام المطبقة على المعاملات العقارية، وبالتالي القضاء على ازدواجية المرجعية كأصل عام بشكل يسهل مهمة القاضي في تطبيق النصوص القانونية ومهمة الدفاع في المرافعة، ودور الفقيه في التعليق وترسيخ الوعي القانوني للمتقاضي والمواطن بشكل عام، وضبط مبدأي التوقع القانوني والقضائي بما يعنيه من معرفة مسبقة بكيفية تطبيق القاعدة القضائية على ذات النوازل بشكل موحد وعادل[16]. لذا فإن ضبط المشرع لنصوص عقارية وفق مستجدات الواقع سواء من خلال قانون 14/07 أو قوانين أخرى ذات الصلة أسهم وبدون شك في ترسيخ الوعي القانوني بالمساطر العقارية سواء من حيث التحفيظ أو الاقتناء أو الاستثمار، وهي أمور أسهمت وبدون شك في التحسيس باستتباب الأمن العقاري وتحقيق التنمية.
ثالثا : مجال الحكامة في التحفيظ العقاري
من مظاهر الحكامة العقارية ما جاء في قانون 14/07 من اختيار التحفيظ[17] وعدم إجباريته إلا ما نص عليه استثناء[18]، كذلك تسهيل مسطرة التحفيظ وتبسيطها كما أشرنا، محاولا بذلك تجاوز التعقيدات الإدارية والمسطرية التي كانت في ظل ظهير 12 غشت 1913، حيث جاء قانون 14/07 بدينامية جديدة تكريسا لروح الحكامة التي هي من صميم دستور 2011[19]. ومن متطلبات الواقع الراهن، وما هو مفروض على المغرب من اتفاقيات دولية التي التزم بها وكرسها سواء في الدستور أو في قوانين خاصة.
ويمكن الإشارة هنا إلى الدور المنوط بالمحافظ العقاري وتقييد سلطته من خلال ما نص عليه روح هذا القانون[20] سواء في عملية التحديد أو حتى في طلب استخدام القوة العمومية. وفي هذا الصدد نص الفصل 20 من ذات القانون “ينجز التحديد في التاريخ والوقت المعينين له، ولتوفير الظروف الملائمة لإجراء عمليات التحديد يجب على وكيل الملك تسخير القوة العمومية عند الاقتضاء بطلب من المحافظ على الأملاك العقارية أو من كل له مصلحة …”، كما نص الفصل 23 “… يعتبر مطلب التحفيظ كذلك لاغيا وكأن لم يكن إذا تعذر على المحافظ على الأملاك العقارية أو نائبه إنجاز عملية التحديد لمرتين متتاليتين بسبب نزاع حول الملك …”.
ولعل أهم مقتضى في هذا القانون هو إمكانية المحافظ تقديم طلب إلى وكيل الملك لتسخير القوة العمومية انسجاما مع تطبيق الحكامة الجيدة وتحقيق الأمن العقاري بحماية الملكية العقارية التي هي من صميم دستور 2011.
رابعا : تطبيق روح مبدأ الشفافية والمقاربة التشاركية في قانون 14/07
اعتبر الدستور المغربي المقاربة التشاركية آلية من آليات تحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق التنمية البشرية، وهكذا فإن وظيفة المحافظ على سبيل المثال في عملية التحديد تعتبر صلة وصل بينه وبين طالب التحفيظ، وبين العقار موضوع مطلب التحفيظ حيث إن عملية التحديد في حد ذاتها عملية إشهارية يتحمل المحافظ فيها إعطاء معلومات عامة وشروحات واستفسارات حول مزايا التحديد والجوانب القانونية المرتبطة به حتى يكون الغير على بينة من العقار موضوع عملية التحديد وكذلك كل من له الحق في التعرض، كل ذلك في إطار القانون وفي الاحترام التام لحقوق الغير. فقد نص الفصل 19 من قانون 14/07 “يقوم المحافظ على الأملاك العقارية بتيسير عمليات التحديد وينتدب لهذه الغاية مهندسا مساحا طبوغرافيا محلفا من جهاز المسح العقاري، مقيدا في جدول الهيئة الوطنية للمهندسين المساحين الطبوغرافيين …”.
خامسا : تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة
لا يمكن تحقيق حكامة عقارية ناجعة وتحقيق تنمية بشرية شاملة إلا بربط المسؤولية بالمحاسبة وهذا ما كرسه الدستور المغربي لسنة 2011 في الباب الثاني عشر في تنصيصه على الحكامة الجيدة عندما نص بصريح العبارة في الفصل 154 على “… أن المرافق العمومية تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والسؤولية، وتخضع في تيسيرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور”، حيث أن هذا الفصل يحدد الالتزامات والواجبات الملقاة على عاتق أي مسؤول كيفما كان حتى لا يخل بذلك في إطار ممارسته لمهامه. ويدخل المحافظ في هذا الباب بحيث يعتبر مسؤولا مسؤولية مباشرة في إطار مهامه المخولة له بمقتضى القانون، ويدخل فيها التأكد من فحص المستندات سواء كانت رسمية أو عرفية ومدى مطابقتها للرسم العقاري قبل إصداره لأي قرار للتحفيظ حيث نص الفصل 72 من قانون 14/07 “يتحقق المحافظ على الأملاك العقارية تحت مسؤوليته من هوية المفوت وأهليته وكذا من صحة الوثائق المدلى بها تأييدا للطلب شكلا وجوهرا”، كما نص الفصل 74 من ذات القانون “يجب على المحافظ على الأملاك العقارية أن يتحقق من أن التقييد موضوع الطلب لا يتعارض مع البيانات المضمنة بالرسم العقاري ومقتضيات هذا القانون وأن الوثائق المدلى بها تجيز التقييد”.
إن مسؤولية المحافظ مرتبطة تماما بالاختصاصات التي يمارسها، فقد يسأل المحافظ مسؤولية جنائية أو إدارية أو شخصية حسب طبيعة المسؤولية التي يمارسها في المرفق الإداري العام للدولة وهي خاضعة للقواعد العامة لقانون الالتزامات والعقود[21] والقانون الجنائي[22].
والقضاء يساهم مساهمة فعالة في إطار سلطاته الواسعة عندما يتعلق الأمر بالطعن في قرارات المحافظ العقاري سواء عندما يتعلق الأمر بقضاء الموضوع أو الاستعجالي أو الإداري حيث التصدي قانونيا لقرارات المحافظ إما بالطعن أو الإلغاء أو عندما يتعلق الأمر بالتعرضات[23].
خلاصــــــــــــة
العقار هو الركيزة الأساسية في التنمية وفي السياسة العامة لإعداد التراب الوطني، حيث الدولة تأخذ في حسبانها وهي تضع القوانين كل المخططات والاستراتيجيات التي يجب أخذها بعين الاعتبار في قوانينها تحقيقا للتنمية وتكريسا لمبدأ الحكامة الجيدة التي تضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين وعلى مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، وعليه، فإن الحكامة العقارية ينتج عنها نتائج اجتماعية يستفيد منها الجميع، ويمكن حصر بعض هذه النتائج فيما يلي :
- ـ الاستقرار الاقتصادي والتنمية المجتمعية.
- ـ تثبيت قواعد الأمن القانوني الذي يعتبر الوعاء العقاري أساسه ومجاله.
- ـ تنمية عدة مشاريع مجتمعية كالفلاحة والصناعة والسكن الاقتصادي والتجهيزات الأساسية المرتبطة بها.
- ـ الحد من النزاعات بين الملاكين المجاورين تحقيقا للأمن المجتمعي وضبطا للوعاء العقاري.
- ـ محاربة الهشاشة والسكن العشوائي.
- ـ تشجيع الاستثمار بخلق مشاريع كبرى عندما يكون العقار سليما في وضعه القانوني.
- ـ بيان مزايا التحفيظ العقاري ودوره في تحقيق التنمية الشاملة.
- ـ تحقيق الأمن التعاقدي الذي هو جزء من الأمن القانوني بشكل عام.
[1] – أنظر الحكامة وأخواتها، د. سعيد جفري، ص. 16 وما بعدها.
[2] – الدستور المغربي لسنة 2011، وصف بعض هذه المصطلحات في تصديره وكذا في الفصول 1، و11، 12، 18، 34، و54، 146 و147 و157، 167 …
[3] - ينص الفصل 35 من الدستور “يضمن القانون حق الملكية ويمكن الحد من نطاقها وممارستها بموجب القانون، إذا اقتضت متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد ولا يمكن نزع الملكية في الحالات ووفق الإجراءات التي ينص عليها القانون، تضمن الدولة حرية المبادرة والمقاولة والتنافس الحر، كما تعمل على تحقيق تنمية بشرية مستدامة من شأنها تعزيز العدالة الاجتماعية والحفاظ على الثروات الطبيعية الوطنية وعلى حقوق الأجيال القادمة”.
[4] – العقار والتنمية المجالية لمدينة تيزنيت، ص. 11.
[5] – نفسه.
[6] – أنظر الفصول 154 إلى 171 من الدستور.
[7] – الفصل 166 من الدستور.
[8] – أنظر قرارات المجلس الدستوري رقم 15/966، ورقم 15/967 ورقم 15/68 والصادرة بتاريخ 30 يونيو 2015 في شأن القوانين التنظيمية الجديدة للجماعات الترابية.
[9] – أنظر مجلة العلوم القانونية ع. 1/2013، ص. 216، التوجهات الحكومية بخصوص الاستثمارات العمومية بالمغرب، جواب رئيس الحكومة عن الأسئلة المتعلقة بالاستثمارات العمومية، العقار والاستثمار، ص. 53، أشغال يوم دراسي بعمالة إقليم الحوز 19/06/2003.
[10] – أنظر الاستثمار والتمويل بالمغرب، د. محمد نجيب بوليف، ص. 16.
[11] – نفسه.
[12] – تدبير مشاريع التنمية البشرية، د. لحسن مادي، ص. 21.
[13] – طبقا لنظام التحفيظ العقاري الذي أحدثه ظهير 9 رمضان 1331 هـ الموافق 12 غشت 1913 م والذي غير وتمم بصورة نهائية بمقتضى قانون 14/07 المتعلق بالتحفيظ العقاري (الفصل الأول).
[14] – أنظر الفصل 9 وما بعده من ظهير 12 غشت 1913 المنسوخ، والفصل الأول من قانون 14/07 (11) النظام القانوني الجديد للحقوق العينية، ص. 32.
[15] – أنظر الفصول 10 و16 و18 و19 من قانون 14/07.
[16] – النظام القانوني الجديد للحقوق العينية، ص. 19.
[17] – الفصل 6 : “إن التحفيظ أمر اختياري، غير أنه إذا قدم مطلب التحفيظ فإنه لا يمكن سحبه مطلقا”.
[18] – نص الفصل 8 “يكون التحفيظ كذلك إجباريا عندما تأمر به المحاكم المختصة أثناء متابعة إجراءات الحجز العقاري في مواجهة المحجوز عليه”.
[19] – نص دستور 2014 على الحكامة الجيدة في الباب الثاني عشر، الفصول : 154 إلى 160، حيث نص الفصل 154 “يتم تنظيم المرافق العمومية على أساس المساواة بين المواطنين والمواطنات في الولوج إليها، والإنصاف في تغطية التراب الوطني، والاستمرارية في أداء الخدمات. تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية وتخضع في تيسيرها للمبادي والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور”.
[20] – أنظر الفصول 21، 22، 23، 29 و31، 38 من قانون 14/07.
[21] – الفصل 79 والفصل 80 من قانون الالتزامات والعقود.
[22] – الفصول 352 وما بعدها من القانون الجنائي.
[23] – نص الفصل 118 من الدستور “حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون.
كل قرار اتخذ في المجال الإداري سواء كان تنظيميا أو فرديا يمكن الطعن فيه أمام الهيئة القضائية الإدارية المختصة”.